الأنشطة الموازية ومردودية المؤسسة التعليمية
تشكل الأنشطة التربوية غير الصفية (الموازية أو المندمجة)* مدخلا مهما من مداخل العمل التربوي بالمؤسسة التعليمية؛ وقد انصب الاهتمام على أشكالها وآلياتها مبكرا ضمن السياسة العمومية للتربية والتكوين. غير أن المتتبع للشأن التربوي يلحظ ـ بسهولة ـ التذبذب والتغير في طريقة التعاطي مع هذا المكون، بشكل يضعف الجانب الترصيدي والتثميني للتجارب الناجحة سواء في إطار برامج وطنية أو في إطار شراكات دولية. ذلك أن المنظومة التربوية أنجزت العديد من البرامج والمشاريع المتعاقبة والتي أبانت عن أثرها الإيجابي على الممارسة التربوية وعلى المناخ المدرسي، لكن دون أن تصنع خيطا ناظما لتلك البرامج والمشاريع؛ مما يجعلها حبيسة زمنها، وكأنها حقائب متناثرة تجود بها سماء التمويلات الدولية دون ان تجد لها تربة خصبة لاستنبات استراتيجية تربوية واضحة ومستدامة في هذا المجال.
وقد حاولت الوزارة تأطير الأنشطة الموازية وفق تصور يجمع بين الشمولية والتخصيص من خلال عدد من الوثائق التنظيمية، خاصة دليلي الحياة المدرسية لسنتي 2008 و2019، وكذا من خلال مخططات التكوين المستمر وآلية مشروع المؤسسة وغيرها. ومع أن الممارسة الميدانية أنجبت تجارب رائدة في عدد من المؤسسات التعليمية، إلا أن الفارق يبقى بارزا بين الأهداف المسطرة وواقع التنزيل، الذي يتسم عموما بالانتقائية والظرفية، وعدم توفر الشروط والمقومات الموضوعية الضرورية.
ولعل نظرة المدبر والفاعل التربوي على السواء تجعل في بعض الأحيان من هذه الأنشطة مسألة تكميلية في مقابل الأنشطة الصفية ذات المكانة المحورية في أداء المؤسسة التعليمية في نظرهم، وهذا ينعكس سلبا بالطبع على الأهمية التي تعطى لتلك الأنشطة في تدبير الزمن المدرسي وتفعيل الأدوار والمهام في الوسط المدرسي. فكيف يمكن إرساء مقاربة ناجعة للرفع من مردودية المؤسسة التعليمية عبر الأنشطة الموازية ؟ وما هي سبل تجاوز الإكراهات الحالية في هذا الشأن؟
1. الأنشطة الموازية والمردودية الداخلية للمؤسسة التعليمية
الاشتغال على رفع المردودية الداخلية بالمؤسسة التعليمية يمر حتما من تشخيص العوامل المؤثرة على التعلمات والاندماج في الوسط المدرسي؛ وقد أثبتت التجارب الميدانية محدودية الآليات التقليدية المعتمدة للحد من التعثر الدراسي والهدر المدرسي، وأخص بالذكر هنا: حصص التقوية والدعم الدراسي، ومساطر تتبع الغياب والسلوك؛ ذلك أن هذه الظواهر ـ بطبيعتها المركبة ـ يتداخل فيها ما هو دراسي بما هو تربوي ونفسي اجتماعي.
والأكيد أن المساحات المتاحة ضمن المنهاج والممارسة الصفية لا يتيح للمتعلمين استثمار ذكاءاتهم المتعددة وتنمية مهاراتهم الشخصية في علاقتها بمواضيع التعلم، مما يؤثر لا محالة على دافعيتهم للتعلم. من هذا المنطلق يمكن القول أن مدخل الأنشطة الموازية يعتبر حلا ناجعا في معالجة التعثرات الدراسية والحد من الهدر المدرسي والسلوكات المشينة بالوسط المدرسي، إذا حسن استثماره إلى جانب الآليات والمداخل الأخرى؛ فهذه الأنشطة تفتح مجالا مرنا للمتعلمين للتعبير عن ذواتهم واختيار مواضيع التعلم والتنشيط التي تلائمهم، كما تساعدهم في التغلب على المعيقات النفسية للتعلم من قبيل الخجل والانطوائية والعدوانية...؛ وإن هذه الأنشطة تمكنهم من تنمية كفايات مستعرضة يحتاجونها عاجلا أو آجلا في نجاحهم الدراسي والمهني.
غير أن تفعيل هذا المدخل ليس بتلك السهولة التي قد تبدو لأول وهلة، ذلك أن النجاعة المطلوبة هنا، تستلزم ربط الممارسة الصفية بالأنشطة الموازية بشكل ممنهج وتفاعلي، بما يجعل هذه الأخيرة متكاملة ومتعاضدة مع الأداء التربوي في مختلف المواد الدراسية؛ وهو ما يستدعي تحليلا منتظما للممارسة الصفية ولنتائج التقويم التكويني، وتكييفا مستمرا لبرامج الأندية التربوية وأنشطتها بالمؤسسة. وهكذا يمكن أن تساهم هذه الأندية في تلبية الحاجات المرصودة لدى المتعلمين، وتساعدهم على تنمية العمل الذاتي بشكل منسجم مع أنشطتهم الصفية.
ومن جهة أخرى، فإن الأنشطة الموازية يمكن أن تساعد الفاعلين التربويين في معالجة ذكية لأسباب الغياب وضعف الاندماج، وذلك من خلال المساحة التي تتيحها للتفاعل مع المتعلمين خارج علاقة مدرس/ متعلم أو إداري/ متعلم، فيكون القرب والتلقائية والانفتاح، ومن ثم الغوص في جذور العوامل الاجتماعية والنفسية لظواهر الغياب والسلوكات اللاتربوية. وقد يكون مجرد فسح المجال للمتعلمين لاستثمار طاقاتهم وهواياتهم، بشكل إيجابي ومخطط له، سببا في تقليص السلوكات المشينة التي لا تعدو أن تكون ردود أفعال تعبر عن أوضاع (تربوية أو اجتماعية أو نفسية) غير مرضية بالنسبة للمتعلم.
2. الأنشطة الموازية والمردودية الخارجية للمنظومة التربوية
لم تعد غايات التربية والتكوين تنحصر في تحصيل المعارف والحصول على الشواهد والديبلومات، بل اتسعت لتشمل إكساب المتعلم مهارات وكفايات وسلوكيات ومواقف تجعل منه فردا متوازنا مكتمل النمو والنضج قادرا على الاندماج واتخاذ القرار. فلا معنى للنجاح الدراسي إذا لم يمكن المتعلم/ الشاب من الاندماج في محيطه الاقتصادي والاجتماعي والانخراط في تنمية وطنه. وهنا تطرح إشكالية العلاقة والانسجام بين مخرجات منظومة التربية والتكوين ومدخلات سوق الشغل والوسط المجتمعي بشكل عام.
ولعل التمفصل بين الأنشطة الموازية والمشروع الشخصي للمتعلم يجسد بشكل دقيق علاقتها العضوية بالمردودية الخارجية لمنظومة التربية والتكوين، باعتبار مفهوم المشروع الشخصي للمتعلم يتجاوز المشروع الدراسي إلى معنى أكثر شمولية، يمكن تسميته " مشروع الحياة "، حيث أن النجاح الشخصي لا يرتبط فقط بتحصيل رتب متقدمة في الدراسة أو كفاءة تقنية مهنية معينة، وإنما بمجموع الأدوار التي يقوم بها الشخص في المجتمع سواء كانت اجتماعية أو مهنية أو ثقافية أو سياسية.
إن الأندية التربوية كآلية من آليات تنشيط الحياة المدرسية تمثل فضاء ملائما لتثمين المؤهلات الذاتية للمتعلمين التي لا تظهر كثيرا في المواد الدراسية؛ كما أنها توفر مجالا خصبا لمساعدة المتعلمين على تنمية كفايات المشروع الشخصي، ورصد صعوبات الاندماج وما يرتبط بها من مشاكل اجتماعية ونفسية ومعالجتها. وتنمية المهارات الحياتية، بما يؤهلهم لاستشراف المستقبل والاستعداد الملائم للاندماج السوسيوقتصادي، خصوصا في ظل الإكراهات والصعوبات المتجددة التي تواجه الشباب في هذا العصر.
ومن أهم الآثار التي يمكن أن تسهم فيها الأنشطة الموازية من هذا المنظور، هو تحسين صورة المدرسة وجاذبيتها لدى المحيط المجتمعي، وبالتالي تغيير التمثلات السلبية عن الجدوى من الدراسة في ظل المخرجات الحالية، مما سيمكن من تقليص الهوة بين الأسرة والمدرسة، وتمتين العلاقة بينهما بشكل ينعكس إيجابا على مواكبة المتعلم نحو النجاح. ذلك أن إعداد المتعلمين بشكل جيد للاندماج المستقبلي سيقلص لا محالة من نسب البطالة والظواهر الاجتماعية السلبية، وبالتالي تعزيز الصورة الإيجابية للمدرسة كآلية للترقي الاجتماعي، وهو الأمر الذي تضطلع فيه الأنشطة الموازية بدور كبير قد لا يظهر أثره إلا بعد استكمال المتعلم لمساره الدراسي والتكويني.
ولابد من التأكيد على أن النجاح في ربط العلاقة بين الأنشطة الموازية والمردودية الخارجية للمنظومة التربوية، يستلزم توفير بيئة ملائمة للمواكبة التربوية، تتكامل فيها تدخلات الفاعلين الداخليين بالفاعلين الخارجيين للمدرسة، وفق منظور نسقي تفاعلي يشكل المشروع الشخصي للمتعلم عموده الفقري ومحوره الناظم، وتكون الأندية التربوية آلية من آلياته التي تجمع بين تنمية الكفايات المستعرضة ودعم التعلمات الصفية، وبين حفز النماء الشخصي والمهني للمتعلم.
وخلاصة القول، أنه رغم الزخم الوثائقي المتراكم، ورغم التجارب والمبادرات النوعية الناجحة، إلا أن مدخل الأنشطة الموازية بالمدرسة المغربية لايزال في حاجة إلى المأسسة باستحضار المنظور النسقي التفاعلي، وهي مأسسة ينتظر منها أن تجعل الأنشطة الموازية مكونا رديفا للممارسة الصفية، وتجد لها جيزا رسميا ضمن الزمن المدرسي وفق آليات مستدامة وناجعة؛ وهو ما يتطلب إعادة النظر في المناهج الدراسية وتدبير زمن التعلم، بما يتيح للأستاذ والمتعلم على حد سواء مرونة كافية لإنجاز التعلمات الذاتية والإبداع في طرق وأشكال وفضاءات التدريس، وربط التعلمات بالأنشطة الموازية. هذا بالإضافة إلى ضرورة وضع إطار تشريعي وتنظيمي يؤطر العلاقة بين المدرسة والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، ويحمي المبادرات الهادفة إلى تعزيز انفتاح المؤسسة على محيطها. دون أن ننسى ما يتعلق بالموارد البشرية من تكوين وتأهيل وتحفيز مادي ومعنوي، لتحقيق انخراط فاعل وطوعي في هذا الصدد.
ومن جميل ما حمله السياق الحالي، هور تركيز خارطة الطريق على ثلاثة أهداف استراتيجية ترتبط بتجويد التعلمات ومحاربة الهدر المدرسي والارتقاء بالأنشطة الموازية، وهي فرصة مواتية لإرساء تصور إجرائي يثمن التجار ب السابقة ويضمن الاستدامة والاستشراف. ولبلوغ تلك الغاية لابد من النظر إلى هذه الأهداف الثلاثة بشكل مندمج وفق المنظور النسقي الذي تطرقنا له، وخصوصا على المستوى المحلي عند بلورة مشروع المؤسسة المندمج واقتراح عملياته الإجرائية.
نتمنى أن تسفر التدابير الحالية عن نهج جديد يتجاوز منطق التجزيء والظرفية، الذي كرس القطائع وأدى إلى انخفاض منسوب الثقة لدى عموم الفاعلين التربويين، فالعبرة ليس بنجاح التجارب المحدودة وإنما بالقدرة على تعميمها وتطويرها واستدامة أثرها.
بقلم :محمد الدريسي
مفتش في التوجيه التربوي
( * ) يستعمل مصطلح الأنشطة المندمجة للدلالة على ارتباط هذه الأنشطة بالمنهاج الدراسي، وقد اعتمدت هنا مصطلح الأنشطة الموازية لكونه شاملا، وبالنظر لاعتماده في خارطة الطريق 2022ـ 2026.
0 تعليقات