من يوميات استاذ بالفرعية

يوليو 18, 2014 يوليو 18, 2014
-A A +A
تعليم بريس :
عبد السميع بنصابر
لم يكُن هناك شيء.. كان الله (وهو الذي سيبقى) وأنا وبضعة أعداد من جريدة قديمة كُنتُ أعود إليها لأحل شبكاتها المسهّمة أو لأُطالعَها جهراً.. وفي خضم الفراغ والغربة والوحدة وأنا بالفرعية على رأس الجبل، نشأَت علاقة غريبة بيني وبين تلك الجرائد.. رغم أنني لم أشترها قطّ.. فقد تركها المُعلّم المتقاعدُ الذي كان هُنا قبل التحاقي بالجبل.. حفظتُ فقراتها من شدة الفراغ.. بل قُمتُ أيضا بضبطها بالشكل التّامّ وصحّحتُ كثيرا من الأخطاء الّتي ارتكبها صحافيو حقبة ما في هذا البلد السّعيد..
تعلّمتُ الطّبخَ وغسلتُ ملابسي بيدي دون فرّاكَة وخطتُ جواربي وشربتُ من ماء المطفية..إلخ، وعندما زارني المفتش بعد سنوات قال لي وهو يُعدّلُ من ربطة عنقه الفستقية "خاصك تحمد الله.. أنت بالضبط خاصك تحمد الله!".. ولم أستطع أن أساله عن السبب، فقد كُنتُ على مشارف ترقية، وكنتُ أعرف أنّ من شروط ذلك الصّمتُ والابتسامة.. وعلى كُل حال، فالحمدُ لله دوما وأبدا ولن أنتظر المفتش الأصلع حتى يُذكّرَني بهذا..
الله أكبر والحمد لله وتّفُو على المفتش وكُل من عليها فان.. أنا مُعلّم الآن ولا أحد يدري عمّ سيمتخّضُ مُستقبلي. صحيحٌ أنّ الشيب بدأ يغزو رأسي إلّا أنني لا أزالُ شابا.. وسيأتي يوم فيه أغدو من شخصيات البلد الشهيرة، وسأرغم هذا المفتش على حمد لله، بل قد أجعله يكفر به..
اشتريتُ سطل صباغة وجمعتُ التلاميذ لنرسُم جداريات على سور المدرسة.. واختفيتُ وسطهم كي أختبر موهبتي.. إذ كان هذا سببَ مُبادرتي تلك.. لقد كانت رسوماتي مُضحكة وقال لي بزقول لم يتجاوز العاشرة:
" إدّْ غْوَادْ أيكانْ الرَّسْمْ أبُو كايو؟!"

وابتسمتُ لحظتها ابتسامة زهو وأنا أمعنُ في جر الفُرشاة جرّاً مُحاولاً أن أغمق على التلاميذ بالتّجريد في التّشكيل، وبعد أيام أخبرني تلميذ آخر أنّ ترجمة عبارة التلميذ الأول هي "واش هذا رسم آبوراس؟".. بتُّ ليلتها أتقلبُ كثعبان يترصّد فريسة.. وما إن رأيتُ البزقول صباحا حتّى ارتميتُ عليه بعصا متينة لكنّ السافلَ تخوّى عليها وقفز على كثير من الصخور تعثرت رجلي بإحداها وتمرمدتُ وضحك التلاميذُ وفرّ الصغيرُ ولم يعُد إلى المدرسة منذ ذلك اليوم إلى أن اشتقتُ إليه فقصدتُ منزله وأعدته.. ففي الجبل ونظرا لطول ملازمتي لأطفالي، صرتُ أشبههم.. أغضب وأنسى بسُرعة.. بعد شهور مرّ على الفرعية بعض شباب القرية ورفعوا جلابيبهم وتبوّلوا على الجداريات الّتي رسمناها وهُم يُدندنون بأغان شعبية.. راقبتُهم من كوة القبو كأرملة تشيع سرقة منزلها بلا حول ولا قوة.. واكتفيتُ بلعنهم سرا..
جرّبتُ بعدها عدّة هوايات.. مارستُ المسرح في القسم واعتقد تلاميذي أنني جُننت، وتناهى الخبرُ إلى المقدّم وحضر مرفوقا بمخزني وطرحا علي عدة أسئلة تتعلقُ بالإرهاب والانتماءات السياسية.. وقال المخزني وهو يحكّ مؤخرته "حتى حنا قاريين وعارفين أن المسرح تُمرر فيه الأفكار التي قد تقلب النظام"
عُدت إلى جريدة الاتحاد الاشتراكي، وزاوجتُ بين ما علق بذهني من قصائد وما أدرّسُ من محفوظات، وصنعتُ نصوصا كثيرة ثم أرسلتُها إلى الجريدة.. ولبثتُ أراسل أخي الأصغر الذي كان بالمدينة وأوصيه بمتابعة الجريدة لكنّها لم تنشر شيئا.. وأخبرني متأسفاً أنه لن يستطيع تكبُد مصاريف الجريدة يوميا دون جدوى، لأنها كادت أن تعصف بمصاريف أدوية أمي المُصابة بالسُكّري.. وحررتُ مباشرة بعدها رسالة إلى بريد الجريدة أؤكدُ لهُم فيها أنني أرغبُ في الالتحاق بحزب الاتحاد الاشتراكي.. وقلت إنني اشتراكي علماني تحرري ليبرالي رأسمالي شيوعي وقد أفكر من أجلكم في الإلحاد.. أرجوكم انشروا قصائدي هذه.. وتقبلوا احترامي التّام..
خلال عُطلة الصيف ناولَني أخي الأصغر رسالة جاءت من مقر الجريدة رفقة نسخة نُشرت عليها بعض نصوصي.. وقرأت في الرسالة أنّ أحد أعضاء التحرير تعاطفَ مع غُربتي وحماسي وقام بنشرها في انتظار أن أرسل نصوصا تستحقُ القراءة فعلا.. فرحتُ كثيراً وخرجتُ إلى المقهى لأُريَ أبناء الحي ما حققتهُ من إنجاز.. وتوالَت بعد ذلكَ نصوصي على الجريدة.. وقال المُديرُ لزوجته مُندهشا عندما أبصَر صورتي على الجريدة "هذا معلم عندي! إنه شاعر!".. قالها ليسَ اعترافا بموهبتي.. بل فقطّ ليُذكّرها أنهُ لا يتحكّمُ في المُعلّمين فقط.. بل حتّى الشوعاراء..

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

للمزيد من الوثائق والموارد تابعونا على قناة ومجموعة تعليم بريس
القناة على الواتساب || https://bit.ly/3OTwonv
القناة على التلغرام || https://t.me/taalimpress
المجموعة على التلغرام || https://t.me/Taalimpress1
790431725383895591
https://www.taalimpress.info/